المادة    
تقدم الكلام عن باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وعلى باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وعرفنا والحمد لله أهمية هذه الشهادة وحقيقتها ومضمونها.
ثم إن الشيخ الإمام المؤلف محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه عقد باباً خاصاً بعنوان: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، وأراد رحمه الله تعالى من هذا الباب أن يبين لنا أن دعوة التوحيد التي دعا إليها متبعاً في ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء جميعاً من قبل؛ إنما هي دعوة إلى ما تضمنه القرآن الكريم من بيان التوحيد، وحقيقته، وبيان ما يضاده وهو الشرك.
فمعنى أن لا إله إلا الله، ومعنى التوحيد الذي هو ديننا -ولله الحمد- نأخذه من كتاب الله ومن سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو بذلك يريد أن يرد على الذين غيروا مفهوم لا إله إلا الله ومعنى التوحيد وحقيقة الشرك، فجعلوا الناس يقعون ويتلبسون بالشرك الأكبر وهم يقولون لهم مع ذلك: إنكم موحدون، ولم تنقضوا توحيدكم، وإن الشرك حالة وصفة أخرى.
والإمام رحمه الله ذكر أربع آيات من كتاب الله تعالى، وهي تبين لنا معنى لا إله إلا الله وحقيقة التوحيد.
قال المصنف رحمه الله: '' باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، وقول الله تعالى: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)) [الإسراء:57] وقوله: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) [الزخرف:26-28] وقوله: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [التوبة:31] وقوله: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)) [البقرة:165] ''
  1. تفسير قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)

    أقول: هذه هي الآيات، ونشرع الآن في تفسير وبيان الآية الأولى، وبيان دلالتها على معنى لا إله إلا الله.
    يقول الله تبارك وتعالى قبلها: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)) [الإسراء:56-57].
    فيوضح الله في هذه الآية معنىً عظيماً جداً، ويرد رداً جامعاً مانعاً على الذين عبدوا من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أي معبود كان، وكما تعلمون أن أعظم من عبد من دون الله هم الصالحون: إما الملائكة أو الأنبياء أو من دونهم من الصالحين من عباد الله الأتقياء ممن يسمون أولياء، وهذا أكثر شرك وأول شرك وقع في بني آدم.
    فإن الله خلق بني آدم جميعاً على التوحيد: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)) [البقرة:213] وقد فسرها علماء التفسير ومنهم ابن عباس رضي الله عنه وبعض تلاميذه، قال: [[كان الناس أمة واحدة على التوحيد فأشركوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين]].
    وقال ابن عباس رضي الله عنه: [[كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون كلها على التوحيد]] وفي الحديث الصحيح حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: {وإني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين}.
    فالأصل في الإنسانية جميعاً هو التوحيد، وقد خلق الله تعالى آدم على التوحيد، فهو نبي مؤمن موحد، وبقيت ذريته عشرة قرون على التوحيد، والأصل أيضاً في كل إنسان أنه يولد على التوحيد: {كل مولود يولد على الفطرة} حتى وإن ولد في أمريكا أو الصين أو الهند بين البوذيين، أو اليهود أو النصارى، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل مولود يولد على الفطرة} وفي بعض الروايات، قال: {على هذه الملة} أي: على الإسلام: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} ولم يقل في أي رواية من الروايات: أو يمسلمانه أبداً، لأنه مولود على الفطرة.
    والفطرة هي الإسلام، وإنما يكون التغيير والتبديل بصرفه عن الفطرة، قال: {كما تنتج البهيمة البهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء} فعندما تلد البهيمة بهيمة، تلدها كاملة سوية الخلقة، ولكن الذي يجذعها ويقطع أذنها أو يشقها بعلامة معينة هم الناس، فلا تُولد بهيمة مجذوعة مشقوقه بعلامة معينة كما كان يفعل الجاهليون.
    وكذلك الناس لا يولد أحد مشرك أبداً، وإنما يولد على هذه الملة، ويولد على الفطرة والتوحيد.
    فيأتي الذين كتب الله عليهم الشقاوة والشرك، والأبوان هم أهم شيء في ذلك، لكن قد يكون غير الأبوين، مثل المجتمع أو دعاة الضلال، فالتربية هي التي تحرف الطفل وتصرفه وتجرفه عن التوحيد إلى الشرك، ولذلك كان ما بين آدم وبين نوح على التوحيد، حتى وقع الشرك في قوم نوح.
  2. أول شرك وقع في الأرض

    وقد وقع الشرك في قوم نوح بعبادة وتعظيم الصالحين والعباد: ((وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)) [نوح:23] فهذه أسماء رجال صالحين، كانوا عباداً يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان الناس يحبونهم ويقدرونهم ويعظمونهم لما يرون فيهم من شدة الاجتهاد في العبادة، فلما ماتوا جاءهم الشيطان، وقال: لو صورتموهم حتى تذكروهم، فإذا تذكرتم هؤلاء الصالحين الأخيار عبدتم الله كعبادتهم.
    وانظروا كيف المدخل الخبيث لعدو الله، فصوروهم ونحتوا الأصنام على صورهم، وبقوا على هذا زمناً حتى نسخ العلم، ودائماً يأتي جيل فيزين له الشيطان ما لم يزين للأول، فجاء الشيطان للأجيال المتأخرة، فقال: اعبدوهم وادعوهم، فهؤلاء واسطة ووسيلة وشفعاء عند الله، وهؤلاء قوم مقربون عند الله، وإذا عبدتموهم قربوكم إلى الله، وأنتم مذنبون مساكين وضعفاء وعندكم ذنوب وخطايا، أما هؤلاء فإنهم عبدوا الله، وبلغوا مراتب العبودية العليا، ولهم عند الله شأن وجاه، فإذا دعوتم الله بواسطتهم، أو دعوتموهم هم فإنهم يكونوا شفعاء لكم عند الله.
    فعبدوهم من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأصبحوا آلهة معبودة من دون الله.
    فهذا هو أصل الشرك في العالم.
    ثم جاء من بعدهم من عبد الأنبياء، وقلَّ أن يُعلم مكان فيه قبر نبي إلا ويأتي إليه الناس فيعبدونه من دون الله، ونحن في هذه البلاد -بحمد لله- قد حماها الله بدعوة الشيخ الإمام المجدد من هذا الشرك، ولو أن فيها من يريد أن يحيي الوثنية، ولكنهم مخذولون بإذن الله، ولن تقوم لهم راية ولا شأن ولا كلمة، لكن في غير هذه البلد تجد العجب العجاب من عبادة القبور والأولياء، لا يكاد يوجد بلد إلا وفيه قبر النبي فلان، أو الولي فلان، أو السيد فلان، أو السيدة فلانة، وهذا في أكثر أنحاء العالم الإسلامي إلا القلة القليلة التي فيها من يدعو إلى الله، وهؤلاء ينبزون بأشد الألقاب، ويقال: إنهم خارجون على المذاهب، وإنهم خوارج ووهابية، ويسبونهم بأشنع السب لأنهم يوحدون الله.
    أما الكثرة الكافرة فهم يعبدون الأولياء، ويعبدون قبور الصالحين، وقد لا يكونون من الصالحين، بل قد لا يكون هناك قبور أصلاً أو مقبورون، فبعضها أُحدث على أنه قبر، وهو ليس بقبر في الحقيقة، لأنه إذا لم يكن فيه ميت فليس بقبر.
    فالمقصود أن هذا الشرك العظيم هوشرك الجاهلية الأولى، وهو كذلك الشرك الذي ما يزال إلى هذا اليوم، وهو أعظم وأظهر أنواع الشرك.
  3. الأدلة على فساد شرك الدعاء

    فشرك العبادة ودعاء غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الشرك الأكبر، والإمام رحمه الله في هذه الآية، أراد أن يبين لنا كيف نتجنب هذا الشرك، وكيف رد الله على هؤلاء المشركين، فقال تعالى: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً)) [الإسراء:56] ومعنى الآية: ادعوا كل من تزعمون أنه إله من دون الله أن يكشف عنكم الضر وأن يحوله إلى غيركم فلن يستطيع كائناً من كان!
    فهؤلاء الأموات -وأفضل من في الأموات الأنبياء- كانوا يدعون الله، ويتضرعون إلى الله، وكانوا فقراء إلى الله، وكانوا محتاجين إلى الله، وكانوا لا يملكون نفعاً ولا ضراً لأنفسهم ولا لأحد من الخلق إلا ما شاء الله، فكيف يعبدون؟!
    وكيف يدعون من دون الله وهم لا يملكون شيئاً من ذلك؟!
    ثم جاءت الحجة الدامغة، والبرهان القاطع، فقال: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ))[الإسراء:57] أولئك الذين يدعون، وفي قراءة: أولئك الذين تدعون، والمعنى واحد لا يختلف، وهو: أن المدعوين المعبودين من دون الله سواءً كانوا من الملائكة أو الأنبياء أو أي عبد صالح عبد من دون الله، أومن الجن ألذين أسلموا -كما فسرها بعض السلف: [[أنهم كانوا يعبدون الجن، فأسلم الجن وبقي العباد يعبدونهم]] يقول الله تعالىفيهم: أنهم أنفسهم يتقربون إلى الله، ويبتغون إليه الوسيلة، فهم أنفسهم يعبدون الله، ويدعون الله وحده لا شريك له، وهم أنفسهم يريدون أن يكون بينهم وبين الله محبة وصلة وقربة، وأن ينالوا عنده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدرجات العليا، ويفوزوا برضاه، وهم أنفسهم يخافون من الله، ومن عذابه وعقابه، وهم أنفسهم يطمعون في رحمة الله، ويرجون ما عنده.
    إذاً إذا كان هذا هو حال المعبودين، فكيف يُعبدون من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
    فكل الشرك الموجود -الآن- في العالم وفي القديم والحديث، يقال: أنه توسل، وينكرون أنه شرك، والتوسل فيه خلاف عندهم، بعضهم يقول: لا بأس به، وبعضهم يقول: إنه واجب، فيجعلون الشرك كله من التوسل، وهذه الآية ترد عليهم، كما يرد عليهم قوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) [المائدة:35].
    إذاً نحتاج أن نعرف ما هي الوسيلة؟